فصل: الشورى في أيام الخلفاء الراشدين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.الشورى في أيام الخلفاء الراشدين:

لم تكن الشورى في الحرب والسلم مقصورة على أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإنما كان الخلفاء يستشيرون في ذلك، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينصح أمراءه وقادته بأن لا يبرموا أمراً حتى يتشاوروا، فقد ورد في كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد حين وجهه لحرب المرتدين قوله: واستشر من معك من أكابر أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإن الله تبارك وتعالى موفقك بمشورتهم. ولما عزل أبو بكر رضي الله عنه خالد بن سعيد أوصى به شرحبيل بن حسنة وكان أحد الأمراء قال: انظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثلما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه لو خرج، والياً فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي تقيّ ناصح فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وليكن الثالث خالد بن سعيد فإنك واجد عندهم نصحاً وخبرة، وإياك واستبداد الرأي عليهم أو تطوي عنهم بعض الخبر.

.الشورى في الحرب بشأن المرتدين في أيام أبي بكر رضي الله عنه:

قال في تاريخ الخميس وقدم على أبي بكر رضي الله عنه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس في رجال من أشراف العرب فدخلوا على المهاجرين والأنصار وقالوا: إنه قد ارتد عامة من وراءنا وليس في أنفسهم أن يؤدوا إليكم ما كانوا يؤدونه إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإن تجعلوا لنا جعلاً نرجع فنكفيكم من وراءنا فدخل المهاجرون والأنصار على أبي بكر فعرضوا عليه الذي عرضوا عليهم وقالوا: نرى أن تطعم الأقرع وعيينة طعمة يرضيان بها ويكفيانك مَن وراءهما حتى يرجع إليك أسامة وجيشه ويشتد أمرك، فإننا اليوم قليل في كثير ولا طاقة لنا بقتال العرب. قال أبو بكر هل ترون غير ذلك؟ قالوا: لا. قال: إنكم قد علمتم أنه كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليكم بالمشورة فيما لم يمضِ فيه أمر من نبيكم ولا نزل به الكتاب عليكم وإن الله لم يجمعكم على ضلالة وإني سأشير عليكم وإنما أنا رجل منكم، تنظرون فيما أشرته عليكم وفيما أشرتم به فتجتمعون على أرشد ذلك فإن الله يوفقكم، أما أنا فأرى أن نشد إلى عدونا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر وألا ترضوا على الإسلام أحداً وأن تتأسوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنجاهد عدوه كما جاهدهم، والله لو منعوني عقالاً لرأيت أن أجاهدهم عليه حتى آخذه من أهله وأدفعه إلى مستحقه، فأتمروا يرشدكم الله فهذا رأيي. فقالوا لأبي بكر لما سمعوا رأيه أنت أفضلنا رأياً ورأينا لرأيك تبع. فأمر أبو بكر الناس بالتجهز وأجمع على المسير بنفسه لقتال أهل الردة.
وفي البداية والنهاية لابن كثير أنه بعد أن أنفذ الصديق رضي الله عنه جيش أسامة قلَّ الجند فطمعت كثير من الأعراب في المدينة، وأن الصديق رضي الله عنه جعل على أنقاب المدينة حراساً، وجعلت وفود العرب تقدم المدينة يُقِرّون بالصلاة ويمتنعون من أداء الزكاة، وفيهم من امتنع من دفعها إلى الصديق رضي الله عنه، وذكر أن منهم من احتج بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} قالوا فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا وأنشد بعضهم:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا ** فواعجباً ما بالُ ملك أبي بكر

ثم ساق ابن كثير ما دار بين أصحاب رسول الله مع أبي بكر حول تركهم وتألفهم وامتناع الصديق رضي الله عنه وما قاله عمر رضي الله عنه وما رد به الصديق على نحو مما سلف بيانه.
وجاء في صحيح البخاري قال: حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قال أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن الزهري قال حدثنا عبيد الله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه وكفر من كفر من العرب فقال عمر رضي الله عنه: فكيف تقاتل الناس؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله. فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعلمت أنه الحق.
وهذا الحديث نص في الشورى وأنها كانت ديدن الخلفاء الراشدين ومعتمدهم، وأنه لم يعارض أحد إلا عمر رضي الله عنه ثم تابع أبا بكر الصديق رضي الله عنه وقد كان رأي أبي بكر رضي الله عنه في حرب المرتدين ومانعي الزكاة رأياً موفقاً.

.الشورى في الحرب في أيام عمر رضي الله عنه:

لما تكاثفت جيوش الفرس على الجيش الإسلامي وخشي الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المسلمين أراد أن يخرج بنفسه لقتالهم فاستشار كبار الصحابة رضوان الله عليهم فقال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إن هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلة، وهو دين الله الذي أظهره الله وجند الله الذي أعده وأمده حتى بلغ ما بلغ وطلع حيث ما طلع، ونحن على موعد من الله والله منجز وعده وناصر جنده ومكان القيِّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويلمه فإذا انقطع النظام تفرق الخرز وذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً هم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن قطباً واستدر الرحى بالعرب، وأصلهم دونك نار الحرب فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهم إليك مما بين يديك، إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لِكَلبِهم عليك وطمعهم فيك، فأما ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما ما ذكرت من عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة وإنما كنا نقاتل بالنصرة والمعونة.

.عمر رضي الله عنه يستشير في الذهاب إلى العراق:

جاء في البداية والنهاية لابن كثير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في اليوم الأول من المحرم سنة 14هـ ركب في الجيوش من المدينة فنزل على ماء يقال له صرار فعسكر به عازماً على غزو العراق بنفسه واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب واستصحب معه عثمان بن عفان وسائر الصحابة ثم عقد مجلساً واستشار أصحابه فيما عزم عليه ونودي أن الصلاة جامعة وقد أرسل إلى علي فقدم من المدينة ثم استشارهم فكل وافقه على الذهاب إلى العراق إلا عبدالرحمن بن عوف فقال له إني أخشى إن كسرت أن تضعف المسلمون في سائر الأرض، وإني أرى أن تبعث رجلاً وترجع أنت إلى المدينة فأتى عمر رضي الله عنه الناس عند ذلك واستصوبوا رأي ابن عوف فقال عمر: من ترى أن نبعث إلى العراق؟ قال: قد وجدته قال: ومن هو قال الأسد في براثنه سعد بن مالك الزهري فاستجاد قوله وأرسل إلى سعد فأمره على العراق وأوصاه فقال: يا سعد لا يغرنك من الله أن قيل: خال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا بطاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده يتفاضلون بالعافية ويدركون ما عند الله بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم منذ بعث إلى أن فارقنا عليه فألزمه فإنه الأمر، هذه عظتي إياك إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين.

.عمر رضي الله عنه يستشير في الخروج لقتال الروم:

لقد شاور عمر رضي الله عنه كبار الصحابة في غزو الروم بنفسه فقال له علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: قد توكل الله لأهل هذا الدين بإعزاز الحوزة وستر العورة والذي نصرهم وهم قليل لا ينتصرون ومنعهم وهم قليل لا يمتنعون حي لا يموت.
إنك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك فتلقهم فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم ليس بعدك مرجع يرجعون إليه فابعث إليهم رجلاً مجرباً واحفز معه أهل البلاء والنصيحة فإن أظهر الله فذاك ما تحب وإن تكن الأخرى كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين.
ويستفاد من هذا أن عمر رضي الله عنه كان يستشير في أمور الحرب شيوخ صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من السابقين الأولين في الإسلام من المهاجرين والأنصار.

.عمر رضي الله عنه يستشير الصحابة في ذهابه لاستلام بيت المقدس:

لما حاصرت جيوش المسلمين مدينة القدس فقد ذكر المؤرخون أن سكان المدينة خرجوا إلى أبي عبيدة بن الجراح مستأمنين يتقدمهم قائدهم صفرونيوس فطلبوا الصلح فتلقاهم بالترحيب وخاطبهم بدعة ولين قائلاً لهم: إن التسليم أكثر نفعاً لكم فانصاعوا: ولكنهم اشترطوا أن لا يسلموا المدينة إلا إلى الخليفة فوافقهم وأمر الجند أن يكفوا عن القتال فصارت هدنة ثم كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعرض عليه الموقف العسكري وعرض عليه القدوم إلى بيت المقدس وأنه اتخذ كل الاحتياطات لسلامته من الغدر وختم كتابه بالعبارة التالية: وإن رأيت أن تقدم فافعل فإن مسيرك أجر وصلاح آتاك الله رشدك ويسر أمرك والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولما وصل الكتاب إلى عمر رضي الله عنه جمع أهل العقد والحل واستشارهم في الأمر، فكان رأي عثمان أن لا يذهب الخليفة بنفسه إذ أن العدو لا بد أن يضطر للتسليم ما دام أصيب بالضعف والرعب، وكان رأي علي أن يصير الخليفة إلى فلسطين عملاً برأي قائده المحنك خشية أن ييأس العدو إذا رفضت شروطه المعقولة فيتمسك بحصنه أو يأتيه مدد من عدو آخر فيتغير الموقف وتنعكس الآية ويصيب المسلمين ضرر عظيم. وفي النهاية أخذ الخليفة برأي علي وسار إلى بيت المقدس بعد أن استخلفه على البلاد.
وهذه النماذج تؤكد في عهد الخلفاء الراشدين والنبوة ضرورة الشورى وإلزاميتها، وأنه لا رشد ولا صلاح للأمة دون التمسك بهذا المنهاج. أما القوانين الوضعية في الدول العصرية فإن الدساتير تقرر حق القائد في اتخاذ القرار بإعلان حالة الطوارئ والحرب والتعبئة العامة، ولكنها تقيد حق اتخاذ القرار والمصادقة على ما يصدر بدعوة مجلس النواب أو الشورى أو الاستشاري فإذا لم يتم العرض على هذه المجالس تتم المصادقة خلال المدد التي يحددها الدستور. والقانون اليمني يحددها بسبعة أيام وإلا فإن حالة الطوارئ تزول ولا يجوز تمديد هذه الفترة إلا بموافقة مجلس النواب، ولا تكاد القوانين الوضعية تختلف على تقرير هذه المبادئ التي كانت الشريعة الإسلامية سابقة النظم الوضعية في ذلك.

.المبحث الخامس: بيان من هم أهل الشورى وما هي الصفات التي ينبغي أن تتوافر فيهم:

إذا كانت الشورى لها مكانة كبيرة في حياة الأمم فإنه من الضرورة البحث عن الصفات التي ينبغي أن تتوافر في أهل الشورى، لأن المهام التي تلقى على عاتقهم كبيرة، فهم ينوبون تارة عن الشعب في التشريع فيما لم يرد فيه نص، وتارة في الرقابة على أعمال الحكومة، وأخرى يشيرون فيها على ولي الأمر بمن يتولى الوظائف العامة والهامة، إلى غير ذلك من المهام الجسيمة، فكان لا بد لنا أن نبحث عن صفات أهل الشورى وملامحهم في الكتاب والسنة وفي أقوال أئمة التفسير والعلماء وفي النظم القانونية لكي نخرج بحصيلة توضح ما التبس على كثير من الناس من أحوال المرشحين للمجالس النيابية أو الشورى وذلك لغرض الوصول بالقارئ لدراستنا هذه إلى ما أفصح عنه القرآن والسنة والعلماء وليكون على بصيرة من الأمر، فقد تضافرت أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الإفادة من صفات أهل الشورى بعبارة النص أو بإشارة النص، وأورد ذلك العلماء في أكثر من موضع ونلخص من ذلك ما يأتي: